مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن أبا هريرة - رضي الله عنه - انحاز إلى معاوية - رضي الله عنه - لما شبت الحرب بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وأنه لم يصبح من الأغنياء إلا بعد أن صانع بني أمية وتزلف إليهم، فكانوا ينيبونه عن ولاتهم في المدينة إن غابوا. ويهدف هؤلاء من وراء ذلك إلى الطعن في أخلاق أبي هريرة - رضي الله عنه - والتشكيك في خلوص نيته وسلامة قصده.
وجوه إبطال الشبهة:
1) أبو هريرة - رضي الله عنه - من أكثر الصحابة الذين نالهم الطعن من قبل أعداء الإسلام الذين لم يعرفوا قدره ومكانته، بالرغم من مناقبه الكثيرة.
2) من الثابت تاريخيا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يصانع أحدا على حساب دينه، وأنه التزم النصح للمسلمين والاعتزال أثناء الفتنة، مع وافر حبه لأهل البيت.
3) إن ثراء أبي هريرة - رضي الله عنهم - كان لأسباب أخرى غير ما يدعيه هؤلاء المغرضون، وإن الواقف علىدين أبي هريرة وأمانته وخلقه؛ ليدرك بما لا يدع مجالا للشك بطلان ذاك الادعاء الظالم المتجني على ذاك الصحابي الجليل.
التفصيل:
أولا. المفارقة الحادة بين مناقب أبي هريرة ونيل أعداء الإسلام منه:
وفي هذا الصدد يحدثنا د. محمد عجاج الخطيب فيقول: "لم يرق لأعداء الإسلام أن يروا هذا الدين، قد صلب عوده، واستوى سوقه، وأثمرت أزهاره، وأينعت ثماره، مما حال بينهم وبين استغلال المسلمين، واستنزاف خيرات بلادهم، وقضى على مصالحهم الاستغلالية، ولم تعد تفلح وسائل القوة في تحقيق مآربهم والوصول إلى غاياتهم، فرأوا أن يدسوا السم في عقائد المسلمين، ليسلخوهم عنها، فعملوا على تغيير وجه الإسلام وتشويهه بمختلف طرق الدعاية الجذابة، وافتنوا في وسائل التشويه المغرية، فشككوا بعض ضعاف القلوب في تعاليمه وأحكامه.
وكان من الصعب عليهم أن يعبثوا بالقرآن الكريم - الأصل التشريعي الأول - فحاولوا أن يطرقوا باب السنة، فاتهموا كبار نقلتها، وأئمة حفاظها، لإضعاف جانب عظيم من الحديث النبوي، قاصدين من وراء هذا تشكيك المسلمين في السنة الطاهرة، ليطرحوهاـ وهي المفسرة والمبينة للقرآن الكريم - فتبعد الشقة بين المسلمين وفهم قرآنهم، ويبدو القرآن غريبا عنهم مع مر الزمن، وبهذا يتم لأعداء الإسلام ما يريدون.
وقد شاعت هذه الأفكار في أبحاث بعض المستشرقين، وحملها عنهم بعض من ينسب إلى أهل العلم، وروجها أشياعهم من أهل الأهواء.
وقد أجمعت الأمة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - الذين سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخرجوا في حلقاته، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله، وإرساء قواعد الإسلام وحفظ الشريعة الحنيفة.
وكان الصحابي الجليل أبو هريرة - رضي الله عنه - أحد كبار الصحابة الذين رووا عن الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - الكثير الطيب، وروى عنه كثير من التابعين، فكان أكثر صحابي رويت عنه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك وجه إليه أعداء الإسلام، وبعض أهل الأهواء سهام طعونهم فأعلنوها عليه حربا شعواء لا هوادة فيها، وتحاملوا عليه، واتهموه في بعض ما روي عنه، واستهزءوا ببعض مروياته" [1].
ومن مناقب أبي هريرة - رضي الله عنه - الذائعة كذلك: أنه حفظ القرآن واعتنى به وتعلمه وأخـذه عـرضا عـن أبـي بن كـعب، بل إن القراءة الأكثر شهرة عند المسلمين - وهي قراءة الإمام نافع - مدارها على أبي هريرة - رضي الله عنه - وظاهر كلام الحافظ ابن الجزري أنه لا يشاركه فيها أحد فيقول: "تنتهي إليه قراءة أبي جعفر ونافع"؛ فإسقاط أبي هريرة إسقاط لقراءة كل من نافع وأبي جعفر.
كان أبو هريرة - رضي الله عنه - متعبدا زاهدا، بارا بأمه حين تمنى إسلامها وأسلمت وكان سببا في إسلامها، وكان كريما اشتهر بعتقه للعبيد وإحسانه لمواليه، وكفالته للأيتام، فأعتق أبا مسلم الأغر بن سليك المدني، بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري، وكفل اليتيم معاوية بن معتب، وكان في حجره وعلمه مما يعلم حتى صار أحد التابعين الرواة.
وكان - رضي الله عنه - طليق الوجه يألف ويؤلف، فيه دعابة - أي: حسن البشر إذا لقي الغير - وقد استغل الطاعنون فيه هذه الدعابة فاتهموه بأنه كان ضعيف العقل مهذارا. مع أن المزاح لم يكن خلقا معيبا، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمازح أصحابه.
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - أهلا للفتوى، وكان ممن يتثبتون فيها، ولقد وثق النبي أبا هريرة حين سأله: «من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث»[2].
وأقر له - صلى الله عليه وسلم - بالخير وذلك عندما سأله:«ممن أنت؟ قال: من دوس، قال: ما كنت أرى أن في دوس أحدا فيه خير».[3] ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحفظ [4].
أما الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - فتتابعوا على توثيقه؛ فهذا ابن عمر يقول: يا أبا هريرة أنت كنت ألزمنا لرسول الله وأحفظنا لحديثه.
وهذا ابن عباس يروي عنه كما في صحيح البخاري، وجمع غفير من الصحابة الكبار منهم جابر بن عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك يروون عنه.
وهذه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تجلسه في مجلسها، بل هو الذي صلى عليها، وحمل جنازة أم المؤمنين حفصة.
وقد شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، كما شهد غزوة ذات الرقاع، وشهد إجلاء يهود المدينة، وشهد الفتح الأكبر وحنين والطائف، وشهد تبوك، وشهد غزوة مؤتة، واشترك في قمع المرتدين، وشهد اليرموك، وغزوات أرمينية وجهات جرجان، وهذا مبسوط مشهور في كتب السير وكتب السنة.
بينما ترى الكذابين الأفاكين ينفون جهاده، ومنهم من يقول: "إن أبا هريرة لم يشارك في غزوة أو سرية، لم يحمل سيفا كي يحارب به أو يدفع عن الإسلام شرا، رجل قضى كل حياته يخدم من حوله مقابل ملء بطنه، لم يتعفف، ولم يحفظ كرامته". سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
ثانيا. من الثابت أن أبا هريرة لم يصانع أحدا على حساب دينه ولم يسلك للثراء طريقا غير مشروع؛ بلالتزم النصح للمسلمين، واعتزل الفتنة، مع وافر حبه لأهل البيت:
ويتابع د. محمد عجاج الخطيب فيقول: "إن أهل العلم جميعا يعلمون أن أبا هريرة كان محبا لأهل البيت، ولم يناصبهم العداء قط، ومشهور عنه أنه تمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يحب من أحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو هريرة هو الذي كشف عن بطن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وقال: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل، وقبل سرته.
ثم إن أبا هريرة لم يكن دائما على صلة حسنة بمعاوية، فقد كان يعزله عن المدينة ويعين مروان بن الحكم، ومن العجيب أن يدعي إنسان أن أبا هريرة كان يكره عليا وأهله، ولا سيما بعد أن يسمع ما دار بين مروان بن الحكم وأبي هريرة، حين أراد المسلمون دفن الحسن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان مما قاله: "والله ما أنت بوال، وإن الوالي لغيرك فدعه، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك. يعني معاوية.. "، ولكن المغرضين المتحاملين على أبي هريرة والذين امتلأت قلوبهم ضغنا وحقدا عليه يرون هذا مجرد رياء ومؤامرة مدبرة بينهما.
ثم إننا نرى أبا هريرة ينكر على مروان بن الحكم في مواضع عدة، فهل هذا الإنكار أيضا من باب المؤامرات التي يدبرها مروان وأبو هريرة لمخادعة العامة؟!
لقد أنكر عليه عندما رأى في داره تصاوير فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يقول الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي! فليخلقوا ذرة» [5].
وأبطأ مروان بن الحكم يوما بالجمعة فقام إليه أبو هريرة فقال له: "أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟ لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال: اسمعوا من أميركم". فهل هذا موقف المتشيع لبني أمية، النازل على رغباتهم في الحديث، الداعي لهم!! أم أن هذا موقف ملتزم الحق؟ إنه أنكر على الأمير تأخره، وحفظ له حقه فأمر المسلمين بالسماع إليه، وهذا دليل آخر على مكانة أبي هريرة بين المسلمين. فلو كان حقيرا مهينا ما سمع منه المسلمون وما تحمله مروان.
وكان الأجدر بالمشككين أن يتهموا أبا هريرة بالتشيع لأهل البيت، لما روى عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مناقبهم ومدحهم مما ورد في صحاح السنة المطهرة، وهذا أولى لهم من أن يتتبعوا الأحاديث الضعيفة، والموضوعة على أبي هريرة في مدح الأمويين، ليتهموه بموالاتهم وتأييدهم، بالرغم من وضوح وضع تلك الأحاديث، ومعرفة الكذبة الواضعين لها، وجلاء أمرها.
ولو كان أبو هريرة منحازا للأمويين لأبي أن يروي بعض فضائل أهل البيت، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ولكن شيئا من هذا لم يقع، وكان أبو هريرة أسمى وأعلى من أن يكتم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لميل أو هوى، وأرفع من أن يكذب على حبيبه الصادق المصدوق محمد - صلى الله عليه وسلم - وإننا نراه يروي في فضائل علي ما لا يخفى.
من هذا ما جاء عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه". قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: "امش، ولا تلتفت"، فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس، قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» [6].
إننا نرى المنصفين من أهل العلم لم يتهموا أبا هريرة - لروايته هذا الحديث - بالتشيع لعلي - رضي الله عنه - وبالعداء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فأبو هريرة لا يتحزب لأحد ولا يماليء أحدا، ولا يسير وراء هوى أو شهوة جامحة، إنما هو ذلك الصحابي العظيم الذي عرفنا استقامته وعدالته، وتقواه وورعه وأمانته.
وقد تصور الواهمون المغرضون أن ما بين يدي أبي هريرة - رضي الله عنه - من نعمة وخير هي أفضال من الأمويين عليه، وإكرام منهم له، لما بذله في سبيل تدعيم ملكهم!! ونسوا أو تناسوا أن أبا هريرة كان يحب العمل إلى جانب حبه العلم، ونسوا ما كان له من أعطيات وتجارة، كما نسوا أنه ولي البحرين للخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجاءه من هناك بخراج عظيم بلغ خمسمائة ألف درهم، كلها من حلال طيب، ولو كان أبو هريرة ممن يسعون وراء الإثراء، ولو بطريق غير مشروع، لاحتجن لنفسه شيئا من هذا المال الجزيل، لكنه أداه كما يؤدي الشريف الأمين، وبين له مورد ماله الذي جاء به، لكن المتقولين توهموا أن جميع ما بين يديه من منح بني أمية له، فهم الذين كسوه الخز، وألبسوه الكتان، وبنوا له في العقيق قصرا، وهم الذين زوجوه بسرة بنت غزوان، أخت الأمير عتبة بن غزوان؛ ويستشهدون لذلك بما رواه مضارب بن حزن حين سمع أبا هريرة يكبر في الليل، قال مضارب: "بينما أنا أسير تحت الليل، إذا رجل يكبر، فألحقه بعيري، فقلت من هذا؟ قال: أبو هريرة. قلت: ما هذا التكبير؟ قال: شكر. قلت: على مه؟ قال: كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بعقبة رجلي، وطعام بطني، وكانوا إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله!! فهي امرأتي".
فأبو هريرة يشكر الله - عز وجل - على نعمه وتوفيقه لزواجه من بسرة، وأي شيء في هذا؟ أي شيء أكثر من طيب نفس أبي هريرة وصفائها، ورضائها بما قسم الله له، واحترامه لأنعم الله - عز وجل - وتواضعه وتذكره ما كان عليه وإقراره بفضل الله - عز وجل ـعليه. ولكن المشككين استغلوا طيب نفس أبي هريرة للتشهير به، ورأوا في كل ذلك مادة غزيرة يشوهونها كما رضوا وأحبوا.
وفي هذا كله يرون أن الأمويين استعبدوه ببرهم، فملكوا قياده، واحتلوا سمعه وبصره وفؤاده، فإذا هو لسان دعايتهم في سياستهم، يتطور فيها على ما تقتضيه أهواؤهم.
هكذا أراد المغرضون أن يصوروا أبا هريرة، الذي عرفنا اعتزاله الفتن، وسيره مع الحق، وحبه لأهل البيت. ويأبى الله إلا أن يقوض ما حاكه أعداء أبي هريرة من شبهات ضده، ويكشف النقاب عن وجه الحق، ليزهق الباطل، وصدق الله العظيم إذ يقول: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه( (الأنبياء: 18).
ثالثا. إن الواقف على دين أبي هريرة - رضي الله عنه - وأمانته وخلقه ليوقن أن هذا الادعاء مكذوب وأن لثراء أبي هريرة أسبابا أخرى غير ما ادعاه هؤلاء:
كان أبو هريرة - رضي الله عنه - رجلا زاهدا لا أرب له في الدنيا، وكان راضيا منها بالشيء اليسير، ولم يكن له من الأهل والولد أو التجارة والزراعة ما يشغله عن طلب العلم وتتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان - رضي الله عنه - عفيف النفس مع فقره، فياض اليد، مبسوط الكف، جوادا، يحب الخير، ويكرم الضيوف، لا يبخل بما بين يديه، وإن كان قليلا، فلم يحمله فقره على الشح، ولم يجعله دنيء النفس يتكفف الناس.
بل آثر أن يأكل الجوع بطنه من أن يأكل هو فتات الموائد، وفضلات الطعام، وفي عسره كله كان ضيف الإسلام وضيف رسول الله وصحبه، حتى إذا ما يسر الله عليه، لم يجعله غناه قاسي القلب، متحجر الفؤاد، بل كان علما من أعلام الجود والكرم؛ قال الطفاوي: نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر، فلم أر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا أشد تشميرا، ولا أقوم على ضيف من أبي هريرة.
وقال أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة سبعا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا.
كان أبو هريرة - رضي الله عنه - طيب الأخلاق، صافي السريرة، يحب الخير، حتى إنه تصدق بدار له في المدينة على مواليه!!
ويكفيه من الكرم أن يتصدق بكل ما يتيسر له، ويظهر هذا فيما يرويه لنا كاتب مروان بن الحكم، قال: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.
فقال أبو هريرة: قد أخرجتها، فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.
ذلكم أبو هريرة - رضي الله عنه - في فقره وغناه، في عسره ويسره، كان يفعل كل هذا لا يريد جزاء ولا شكورا، يبتغي وجه الله بعمله، وكان على ذلك منذ أيامه الأولى في الإسلام؛ فيوم هاجر مسلما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، كان له غلام قد أبق منه، ولقي أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلن إسلامه، وإذا بغلامه يأتي، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، هذا غلامك، فيقول أبو هريرة: هو لوجه الله، فأعتقه» [7].
لقد أعتق أبو هريرة - رضي الله عنه - مملوكه قربة لله، فرحا مسرورا، وهو أحوج ما يكون إليه، فعوضه الله خيرا منه، الإسلام وصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا قرة عين له، وسعادة أبدية، تفوق كل سعادة.
كان يحب أن يتصدق من ماله، ليشعر بالراحة النفسية، وينال أجره مرتين، قيراطا لعمله، وآخر لصدقته، يروى عنه أنه قال: درهم يكون من هذا - وكأنه يمسح عن جبينه - أتصدق به، أحب إلى من مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف من مال فلان.
وعن أسباب غناه وثرائه نؤكد أولا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - عاش فقيرا، ولم يكن - كما ذكرنا - ممن يحرصون على الدنيا.
وفي عهد عمر - رضي الله عنه - استعمله على البحرين، كما ذكرنا منذ قليل، فقدم بمال جزيل وكان معه من ماله الشخصي عشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله، وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت علي. فنظروا، فوجدوا كما قال. فهذه هي الموارد المالية الحقيقية لأبي هريرة - رضي الله عنه - وهي موارد مباحة كما يرى، ليس فيها شبهة أو غموض أو اختلاط بمال مسلم أو معاهد.
ومع ذلك فقد قاسمه عمر - رضي الله عنه - مع جملة من العمال، وكان أبو هريرة يقول: اللهم اغفر لأمير المؤمنين.
وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك، يوسف عليه السلام؟! فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى من عملكم ثلاثا واثنتين. قال: فهلا قلت خمسا؟ قال: لا، أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي[8].
وهكذا يتبين لنا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - بريء مما نسب إليه وأنه لم يثر عن طريق علاقة مريبة مع أي جهة سياسية، بل ثراؤه وغناه قديمان منذ عهد عمر - رضي الله عنه -، وأنه كان مثل غيره من الصحابة راغبا في الآخرة، مكتفيا من الدنيا بما يقيم صلبه، فلم يطمع في ثراء، وإنما عمل وتاجر ليرتزق ويكتسب.
وبهذا التفصيل يتضح لنا أن الطعن في هذا الصحابي الجليل، إنما دافعه ومحركه الحقد على الإسلام؛ لأن أعداء الإسلام وجدوه أكثر الصحابة حديثا، فلو ردت أحاديثه لسقطت السنة وضاع الدين [9].
الخلاصة:
· الطعن في أبي هريرة - رضي الله عنه - محاولة مغرضة للنيل من السنة النبوية؛ لأنه من أكثر الصحابة رواية لها. وقد أغفل الطاعنون في هذا الصحابي الجليل فضله وقدمه ومناقبه الذائعة المتواترة.
· كـان أبـو هريرة - رضي الله عنه - مـحبـا لآل البيت، وقد روي في فـضلهم أحاديث كثيرة، ولم يكن - قط - ذلك الرجل الذي تحركه المصالح الشخصية أو القوى السياسية، فلقد كان كثير النقد لولاة بني أمية، وكان ممن اعتزل أحداث الفتنة فلم يشترك فيها ولم يحمل من دمائها شيئا.
· كان أبو هريرة - رضي الله عنه - ثريا، لكن ثراءه هذا لم تكن فيه شبهة أو غموض في مصدره، فلقد كان واليا لعمر بن الخطاب على البحرين، وقد اتجر واكتسب، وكان له عطاء متراكم، وغلة رقيق له، ونتاج خيل، وكان هذا قبل خلافة بني أمية، وهذا أوضح ما ينفي عنه كل شبهة أو ظن أنه ثري من طريق غير مشروع، لعلاقة مريبة ببني أمية كما يزعم المدعون.
[1]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص5، 6 بتصرف.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (99).
[3]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب أبي هريرة رضي الله عنه (3838)، وصححه الألباني في صيحح الترمذي (3014).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب ما جاء في قوله تعالى: ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ((الجمعة: ١٠) (1942).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ) والله خلقكم وما تعملون (96) ( (الصافات) (7120)، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (5665).
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (6375).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (4132).
[8]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص84: 87 بتصرف. دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، 1409هـ/ 1989م، ص176 وما بعدها.
[9]. أبو هريرة الصحابي المفترى عليه، أبو طلحة المصري، مكتبة سلسبيل، القاهرة، 2007م، ص17، 18 بتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق